Tag Archives: الذنب

الحرام واختراع الذنب

 

بدأ شعور الشخص بالذنب تجاه المجتمع مع نشأة المحرم أو التابو وهو بتعريفه الأنثروبولوجي : ” المنع المستند لجزاء سحري أو ديني يؤدي خرقه بصورة تلقائية الى إنزال القوى الفوق طبيعية العقوبة بمن يخرقه. ” *

عقوبة التابو فردية وجماعية والمجتمع يتنبنى عدة خطابات حتى يحقق تحفيز الشعور بالذنب ومن ثم يضمن تحقيق القانون (مراقب خفي من أرواح الأسلاف أو ماشابه يراقب أفعال الفرد) ومن هذه الخطابات الخطابين التاليين :  “انت مش عارف مصلحتك ، كيف تفعل المحرم كذا وكذا  ”  –  خطاب الذنب تجاه الذات . ” انت بتجيب الوبال علينا كلنا ، محرم عليك كذا وكذا ” – خطاب الذنب تجاه الجماعة .

والذي فرض التابو هو المجتمع وبخاصة السلطة وتحديدا ساحر القبيلة او الكاهن.

هل كان البدائي سيشعر بالذنب لولا تحديد المجتمع للتابوه ؟ أي وبطريقة أخرى : الى أي مدى يمكننا تأكيد أصالة هذا الشعور بالذنب.

بطبيعة الوضع بأغلب القبائل يكون للكاهن / الساحر / الطبيب / .. الكلمة العليا فيما يخص تحديد التابو ويصبح إرث يتوارثه الأبناء عبر الأجيال .

لكن الى أي مدى يمكننا تقدير احساس البدائي بالذنب فهذا مرتكز بالاساس على مدة ايمان إنساننا الأول بالتابوه ، فلو كان ايمانه قوي شعر بالدنس وتأنيب الضمير فيما اقترفه على الجماعة وعلى نفسه ، لكن لو كان مارقا بطبيعته فالشعور سيكون ضحلا للغاية .

وجع الإضطراب / وجه أخر للذنب

يحدث الوجع وعدم الراحة للفرد في مجتمع عندما يضطرب التناغم في ايقاع السلوك ، أي عندما يصبح سلوك الفرد غير مقبول من المجتمع أو تكون قواعد المجتمع عبء على الفرد ويتوق للتحرر منها بأي وقت ، وعندما يحدث هذا الصدام أو التعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع يحدث اضطراب شديد عند طرفي هذه النغمة في العلاقة .

في حالة الاضطراب البسيط : تمر الأمور ويستوعب المجتمع في العادة  سلوكيات غريبة كثيرة تحت نطاق التقليعات او بالاستخفاف مثل مثلا موضة المراهقين في الشعر والملابس.

في الاضطراب الشديد : أي في التعارض التام وعلى طول الخط بين قواعد المجتمع الذي مفترض أن يكون وضعها لمصلحة الجميع وبين الفرد ومصلحته على الأطلاق.

مثلما يحدث مع المثليين في مجتمع شديد المحافظة أو مع المرأة في المجتمعات المتطرفة .

فعليا ، دائما يجب أن نستميت جميعا للوصول لموائمات.. هي الحل الأمثل للتعايش برغم انها احيانا كثيرة تكون مستحيلة.

وبرغم ذلك وحتى في الموائمة ، لا يغيب الشعور بالذنب .. مؤكد أن يتأرجح الشعور بالذنب بين الاحساس بالذنب تجاه المجتمع : لو التصق الفرد أكثر بسلوكه ومصلحته الشخصية فيما قد يكون غير مقبول من المجتمع . وبين الاحساس بالذنب تجاه الذات : عندما يتناسى الفرد نفسه واحتياجاته وحقيقته ويخضع بخنوع لمجتمع يتحكم في كل مايخصه كالآلة.

4-  لماذا يجب استبدال الذنب بالموائمة من الجميع؟

الفرد : له منظومة قيم تخدم مصالحه وطباعه وأهدافه الأصيلة . المجتمع : له منظومة قيم تتيح له بقاءه ومصالحه . علاقة الفرد بالمجتمع : الفرد يحقق أهدافه من خلال أدوات المجتمع ولذا فهو يتمثل قواعده وتعاليمه ، وهي ليست نابعة منه وانما غرسها فيه المجتمع فنجد مثلا : أن المحرم في مجتمع هو عادي جدا في مجتمع آخر . حتى الكلمات ، فنجد مثلا كلمة مثل : “مَرة ” بالأردن يعتبرها المصريين سبة وهكذا ؛ فالقيم نسبية بحسب مجتمعها.

اما في علاقة الفرد بالمجتمع فهي مفترض أن تكون منظومة تكامل وليس استعباد أو قهر ، وقيمه ليست مطلقة (فيما عدا ميثاق حقوق الانسان العالمي فعليه اجماع عالمي في هذه الحقبة الآنية أي مازال الميثاق نسبي لعالمنا بمقياس الزمان والتاريخ ). لذا ، وجب على المجتمع والفرد أن يتوائما : لأنه لا أحقية لطرف على آخر فيجب أن يعطي المجتمع للفرد حريته ويساعده على تلبية أهدافه ومنها يحترم الفرد مجتمعه ويخضع بقناعة لقواعده وقوانينه ، أي أن “الموائمة هي الحل” .

مثال معاصر للذنب : الزيجات التعيسة . لنتخيل فتاة يدفعها المجتمع دفعا لتتزوج ، “فتستلقط” رجل ما للزواج ، لكي تعيش في ظروف أفضل وبيت أوسع وأموالا أكثر ..لا وجود للحب في هذه الصفقات ..  تختاره غني، ضعيف الشخصية ، وتسارع بإنجاب الأطفال منه فور الزواج لتثبت احقيتها لما دُفع فيها من مَهر وخلافه ولتثبت ملكيتها له كزوج وأب. تبدأ الصغار في النمو ، يستقر الوضع وتذهب زهوة الشقة والعربية والتسوق ويبقى الفراغ والخرس الزوجي ، هي لم تضع في الاعتبار مسألة الميل أو الحب منذ البداية ، ولان الحب فكرة غير محددة الملامح مما يؤهلها لملء ثقوب العلاقات ، تحيل –هي- شعورها بالفراغ والوحدة لغياب الحب والميل بينهم ، وتختفي السعادة – او التي ظنوها سعادة – من حياتهم وربما يبدأ كل طرف في البحث عن بديل خارج الزواج ، ربما زميل عمل أو قريبة . لكن هل حقا غياب الحب هو السبب ؟ أم انه غياب الهدف ؟ الفتاة التي تزوجت بهذه الكيفية كان لها هدف آخر وهو تحسين مستوى معيشتها ، فهذا ماكانت تطمح له حقا وبمجرد بلوغها الهدف تذوقت حلاوته لفترة ثم فتر حماسها ،

“لاننا نحتاج لاهداف دائمة او متجددة في حيواتنا حتى نواظب على حماسنا في المضي قدما ” ، وهي انتهى هدفها وتحتاج لآخر جديد.

وهذا الرجل الذي تزوج فتاة لا يحبها لكنها – مضمونة – انتقل فيها من سلطة الأم لسلطة الزوجة لتيسر له حياته فهو معتاد أن تدفعه امه دفعا في شئونه وتهتم بكل صغائره وحقق ما أمرت به أمه لكن امرأته لم تعد تهتم به كما كانت ، لم تعد تضحك لنكاته البايخة او تقول له أي كلمة استحسان . فهنا ايضا فشل الهدف / ولم تعد المرأة التي تزوجها لتيسر حياته وتدفعه في كل شيء فينعتها ب “لم تعد تحبه” أو “مقصّرة في واجباتها الزوجية” بحسب التعبير الشائع ؛ ولا أحد يحدد ماهي الواجبات هذه ولا كيف يكون هناك واجب في تقارب إنساني مفترض أن يكون اساسه التعبير الحر عن الحب والمشاعر . وهنا يكون الذنب في أعلى درجاته : ذنب نحو الذات لانه لا أحد من الزوجين يحصل على هدفه ، وذنب نحو الآخر لان كل طرف لايطيق شريكه وربما يتقارب مع بديل ، وذنب نحو المجتمع لانه لا يستطيع الالتزام بالمنظومة المثالية التي يشجعها المجتمع ويريدها.

لذا يجب أن يكون هناك موائمة ، يقرر فيها الشخص الهدف الحقيقي لما يفعل ، يقرر الاستمرار في حياته بالشكل الذي يختاره  ، يقرر ويختار ويساعده مجتمعه . مايحتاجه الفرد : هو مزيدا من الشجاعة ، ” وايه المشكلة لو عشت منبوذ بس سعيد ؟ ” ومايحتاجه المجتمع : مزيدا من العقلانية واحترام الحرية ” خلي الناس تختار القوانين اللي حتمشي عليها بديموقراطية” . عندها سيمكن تحقيق موائمات مشبعة ومشجعة للطرفين وبدون سخط ونقمة على المجتمع ، موائمات ترتقي بالطرفين للوطنية والانتماء للمجموع – أي كان عنوانه – .

* قاموس الانثروبولوجيا – د.شاكر مصطفى سليم